كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الَّذِي قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ سُورَةُ الْجِنِّ وَقِيلَ: سُورَةُ الرَّحْمَنِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ إسْنَادَ الدُّعَاءِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَةٌ وَإِلَى الْقُرْآنِ مَجَازٌ وَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى.
فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ دَاعِيَ اللَّهِ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَفَى.
ثُمَّ نَقُولُ: الضَّمِيرُ فِي {وَآمِنُوا بِهِ} عَائِدٌ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْقُرْآنِ وَعَوْدُهُ فِي سُورَةِ الْجِنِّ عَلَيْهِ لِتَقَدُّمِهِ دُونَ غَيْرِهِ، هَذِهِ الْعِلَّةُ مَفْقُودَةٌ هُنَا.
وَقَوْلُ السَّائِلِ وَلَا شَكَّ فِي وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ.
أَقُولُ: وَكَذَلِكَ لَا شَكَّ فِي وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ فَالْقُرْآنُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلٌّ مِنْهُمَا تَجِبُ إجَابَتُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَوُجُوبُ إجَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْتَضِي تَعَلُّقَ شَرْعِهِ بِهِمْ، وَوُجُوبُ إجَابَةِ الْقُرْآنِ تَقْتَضِي وُجُوبَ امْتِثَالِ مَا فِيهِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِمْ جَمِيعُ تَكَالِيفِهِ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فَقَصْرُ السَّائِلِ كَلَامَهُ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ وَهُمْ قَدْ أُمِرُوا بِالْإِيمَانِ وَالْإِجَابَةِ فَلَمْ تَزَلْ الْإِجَابَةُ وَتَكَلَّمَ فِي الْإِيمَانِ، وَإِنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْإِجَابَةِ الْإِيمَانُ مَنَعْنَاهُ فَإِنَّهُمَا أَمْرَانِ مُتَغَايِرَانِ.
وَقَوْلُهُ وَبِتَقْدِيرِ عَوْدِهِ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِهِ صَحِيحٌ.
وَقَوْلُهُ: وَمُطْلَقُ الْإِيمَانِ بِهِ أَعَمُّ مِنْ الْإِيمَانِ بِكَوْنِهِ رَسُولًا إلَيْهِمْ إلَى آخِرِهِ.
جَوَابُهُ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِإِجَابَتِهِ وَبِالْإِيمَانِ بِهِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْإِجَابَةِ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَرِدُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ وَالْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ بِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ وَهُوَ كَوْنُهُ دَاعِيًا إلَى اللَّهِ تَجِبُ عَلَيْهِ إجَابَتُهُ وَذَلِكَ هُوَ الْإِيمَانُ بِكَوْنِهِ رَسُولًا إلَيْهِمْ.
وَأَمَّا وُجُوبُ الْإِيمَانِ عَلَيْنَا بِمُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَمَعْنَاهُ أَنَّا نُؤْمِنُ بِأَنَّهُمَا نَبِيَّانِ رَسُولَانِ إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ كَرِيمَانِ وَمَحِلُّهُمَا الْمَحِلُّ الَّذِي أَحَلَّهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْجِنِّ وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزِيَادَةُ الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ دَاعٍ لَهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ إجَابَتُهُ لِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ قَوْمُهُمْ كَإِيمَانِنَا بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ دَاعٍ يَجِبُ عَلَى الْمَدْعُوِّ الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ رَسُولٌ إلَيْهِ وَيَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمَدْعُوِّ الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ رَسُولٌ فِي الْجُمْلَةِ وَالْجِنُّ مَدْعُوُّونَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ رَسُولٌ إلَيْهِمْ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ الْأَخَصُّ بِخِلَافِ مَا قَالَ السَّائِلُ.
فَصْلٌ:
قَالَ السَّائِلُ: وَكَوْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ رِسَالَتُهُ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ أَعَمُّ مِنْ الرِّسَالَةِ صَحِيحٌ، وَقَدْ حَصَلَ مِنْ الْأَدِلَّةِ مَا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ.
فَصْلٌ:
وَالضَّمِيرُ فِي قوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} يَجُوزُ عَوْدُهُ إلَى الْفُرْقَانِ وَبِتَقْدِيرِ عَوْدِهِ إلَيْهِ فَالنَّذِيرُ أَعَمُّ مِنْ الرَّسُولِ وَأَيْضًا فَهُوَ مَخْصُوصٌ.
أَقُولُ: كَوْنِ الضَّمِيرِ لِلْفُرْقَانِ يَرُدُّهُ كَوْنُهُ أَبْعَدَ وَكَوْنُ النَّذِيرِ أَعَمُّ مِنْ الرَّسُولِ إنْ أَرَادَ بِحَسَبِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ فَالنَّذِيرُ وَالرَّسُولُ كُلٌّ مِنْهُمَا أَعَمُّ مِنْ الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ النَّذِيرَ هُوَ الْمُخْبِرُ بِمَا يُخَافُ مِنْهُ سَوَاءٌ أَكَانَ الْخَبَرُ عَنْ نَفْسِهِ أَمْ عَنْ غَيْرِهِ وَالرَّسُولُ هُوَ الْمُخْبِرُ عَنْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ بِمُخَوِّفٍ أَمْ بِغَيْرِهِ وَسُمِّيَ الرَّسُولُ عَنْ اللَّهِ نَذِيرًا؛ لِأَنَّهُ يُخَوِّفُ النَّاسَ عَذَابَ اللَّهِ وَسُمِّيَ الْمُبَلِّغُونَ عَنْهُمْ نُذُرًا؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُمْ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تعالى: {وَلَّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} وَيُسَمَّوْنَ أَيْضًا رُسُلًا وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا رُسُلًا عَنْ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْله تعالى: {إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} وَكَانُوا رُسُلَ عِيسَى عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَبِهَذَا قِيلَ: إنَّ الرُّسُلَ إلَى الْجِنِّ فِي الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ وَكَانُوا نُذُرًا مِنْ جِهَةِ رُسُلِ الْإِنْسِ فَسُمُّوا رُسُلًا فِي قَوْله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ فِيهَا.
إذَا عَرَفْت ذَلِكَ فَتَسْمِيَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ نَذِيرًا إنَّمَا كَانَ لِإِخْبَارِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى لِقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} فَإِذَا سَلِمَ أَنَّهُ مُخْبِرٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى لِلْجِنِّ وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْفُرْقَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الرَّسُولِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ السَّائِلِ هُنَا إنَّ النَّذِيرَ أَعَمُّ مِنْ الرَّسُولِ وَقَوْلُهُ وَأَيْضًا فَهُوَ مَخْصُوصٌ يُشِيرُ إلَى خُرُوجِ الْمَلَائِكَةِ مِنْهُ، وَجَوَابُهُ إنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ حُجَّةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، وَلَوْ بَطَلَ الِاسْتِدْلَال بِالْعُمُومَاتِ الْمَخْصُوصَةِ لَبَطَلَ الِاسْتِدْلَال بِأَكْثَرِ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعُمُومَاتِ مَخْصُوصَةٌ، وَأَيْضًا فَلَوْ قِيلَ لِمُدَّعِي خُرُوجِ الْمَلَائِكَةِ مَنْ أَنْذَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَّا لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَإِمَّا غَيْرَهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْإِنْذَارِ وَالرِّسَالَةِ إلَيْهِمْ فِي شَيْءٍ خَاصٍّ أَنْ يَكُونَ بِالشَّرِيعَةِ كُلِّهَا.
وَالْقَوْلُ بِالْعُمُومِ فِي حَقِّهِمْ فِي مُطْلَقِ الْإِنْذَارِ لَا يَكَادُ يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِهِ.
وَأَيْضًا مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْمَلَائِكَةَ هُمْ مُؤْمِنُو الْجِنِّ السَّمَاوِيَّةِ فَإِذَا رُكِّبَ هَذَا مَعَ الْقَوْلِ بِعُمُومِ الرِّسَالَةِ لِلْجِنِّ الَّذِي قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ لَزِمَ عُمُومُ الرِّسَالَةِ لَهُمْ لَكِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ مِنْ الْجِنِّ قَوْلٌ شَاذٌّ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْعَالَمِينَ ثَلَاثَةٌ: الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالْمَلَائِكَةُ أَضْعَافُ الثَّقَلَيْنِ وَإِنَّمَا أَرَدْنَا بِهَذَا عَدَمَ تَسَرُّعِ السَّائِلِ إلَى الْقَطْعِ بِالتَّخْصِيصِ.
فَصْلٌ:
قَالَ السَّائِلُ: وَتَسْمِيَتُهُ الْجِنَّ نَاسًا إنْ كَانَ حَقِيقَةً فَيَلْزَمُ الِاشْتِرَاكَ وَإِلَّا فَمَجَازٌ وَهُمَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ثُمَّ حَيْثُ أَطْلَقَ النَّاسَ فَالْمُرَادُ وَلَدُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ لِأَنَّهَا السَّابِقُ إلَى الْفَهْمِ وقَوْله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ يَدُلُّ أَقُولُ قَوْلُهُ إنْ كَانَ حَقِيقَةً يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكَ وَإِلَّا فَمَجَازٌ وَهُمَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ.
يَرِدُ عَلَيْهِ التَّوَاطُؤُ وَهُوَ الْحَقُّ إذَا قُلْنَا: يُطْلَقُ عَلَى الْجِنِّ نَاسٌ فَإِنَّ النَّاسَ جَسَدٌ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّوَسِ وَهُوَ الْحَرَكَةُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَهُوَ مَوْضُوعٌ لِمَعْنًى عَامٍّ مُسْتَوْفًى فِي مُحَالِهِ وَهَذَا حَدُّ الْمُتَوَاطِئِ وَلَيْسَ بِمُشْتَرَكٍ وَلَا مَجَازٍ يَعُمُّ إطْلَاقَ الْمُتَوَاطِئِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ؟ فِيهِ بَحْثٌ طَوِيلٌ لِشُيُوخِنَا وَشُيُوخِ شُيُوخِنَا وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَالْخُصُوصُ غَيْرُ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْخُصُوصِ فَقَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ فَيَكُونُ مَجَازًا، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إنْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ بِخُصُوصِهِ كَانَ مَجَازًا.
وَلَا تَحْقِيقَ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ أَوْ هُوَ عَيْنُ التَّحْقِيقِ فَإِنَّ الِاسْتِعْمَالَ فِي الْخُصُوصِ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْخُصُوصِ أَمَّا إذَا أَرَدْتُ الْعُمُومَ فَلَا تَسْتَعْمِلْهُ فَلَا وَجْهَ لِلْخُصُوصِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّفْصِيلِ وَإِنْ كَانَ حَقًّا.
وَتَفْصِيلُ السَّائِلِ التَّسْمِيَةَ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازِ مُسْتَدْرَكٌ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَا تُوصَفُ بِحَقِيقَةٍ وَلَا بِمَجَازٍ وَإِنَّمَا الْمَوْصُوفُ بِهِمَا اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضُوعِهِ وَفِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ.
وَتَحْرِيرُ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ: اسْمُ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا لِلْجِنِّ مَعَ كَوْنِهِ مَوْضُوعًا لِلْإِنْسِ لَزِمَ الِاشْتِرَاكَ وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا لِلْإِنْسِ فَقَطْ وَأُطْلِقَ عَلَى الْجِنِّ لَزِمَ الْمَجَازَ.
وَإِذَا حَرَّرَ الْعِبَارَةَ هَكَذَا يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ إنْكَارَ اسْتِعْمَالِ هَذَا الِاسْمِ فِي الْجِنِّ بِالْأَصَالَةِ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ لِنَقْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ ذَلِكَ فَكَوْنُهُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لَا يَضُرُّ بَلْ يَتَرَجَّحُ إنَّهُ مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الِاشْتِرَاكِ، أَوْ يَتَرَجَّحُ بِأَنَّهُ مُتَوَاطِئٌ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَاطِئَ خَيْرٌ مِنْهُمَا عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ يَلْزَمُ بِالتَّوَاطُؤِ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا.
وَجَوَابُهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ بِخُصُوصِهِ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ بِخُصُوصِهِ؛ لِأَنَّهُ يُكْتَفَى فِي الِاسْتِعْمَالِ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ.
وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْجِنِّ وَلَكِنْ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا فَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ مُسْتَعْمَلٍ لَا يَخْلُو عَنْ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ السَّائِلِ إنْكَارُ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ النَّاسِ فِي الْجِنِّ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِقَوْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ لَكِنَّهُ قَلِيلٌ وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتَفِيَ بِدَعْوَى الْقِلَّةِ فِيهِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْقِلَّةِ لَا يُنَافِي قَوْلَنَا: إنَّهُ مُتَوَاطِئٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُتَوَاطِئَ قَدْ يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُهُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ دُونَ بَعْضٍ.
وَالثَّانِي: مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ لَفْظَ النَّاسِ صُورَتُهُ وَاحِدَةٌ وَهُوَ لَفْظَانِ فِي الْحَقِيقَةِ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: أَصْلَانِ.
فَالنَّاسُ الْمَوْضُوعُ لِلْإِنْسِ فَقَطْ مَادَّتُهُ مِنْ هَمْزَةٍ وَنُونٍ وَسِينٍ، وَالْأَلْفُ الَّتِي وَسَطُ زَائِدَةٌ فَوَزْنُهُ عَالٍ، وَهُوَ غَيْرُ النَّاسِ الْمُتَوَاطِئُ بَيْنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَإِنَّ مَادَّتَهُ مِنْ نُونٍ وَوَاوٍ وَسِينٍ وَلَا حَذْفَ فِيهِ بَلْ قُلِبَتْ وَاوُهُ أَلْفًا فَوَزْنُهُ فَعَلَ، وَلولا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّغَايُرِ لَكَانَ مُشْتَرَكًا، وَثَمَّ أَلْفَاظٌ فِي اللُّغَةِ هَكَذَا صُورَتُهَا وَاحِدَةٌ وَإِذَا نُظِرَ إلَى تَصْرِيفِهَا وَاشْتِقَاقِهَا عُلِمَ تَغَايُرُهَا مِثْلُ زَالَ مَاضِي يَزَالُ وزَالَ مَاضِي يَزُولُ وَمِثْلُ عَلَا الَّتِي هِيَ فِعْلٌ، وعَلَى الَّتِي هِيَ حَرْفٌ وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَلْفَاظِ لَا نُطِيلُ بِذِكْرِهِ فَلَفْظُ النَّاسِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، هَذَا الَّذِي تَخْتَارُهُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النُّحَاةِ يَنْقُلُ فِيهِ خِلَافًا.
وَقَوْلُ السَّائِلِ: إنَّهُ حَيْثُ أُطْلِقَ النَّاسُ فَالْمُرَادُ وَلَدُ آدَمَ هُوَ الظَّاهِرُ لَكِنَّا قَدَّمْنَا خِلَافًا فِي قوله: {فِي صُدُورِ النَّاسِ} وَالْآيَتَانِ اللَّتَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُرَادُ فِيهِمَا وَلَدُ آدَمَ لِقَرِينَةٍ فِيهِمَا، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَالْقَرِينَةُ الْمَذْكُورَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا}.
فَصْلٌ:
قَالَ السَّائِلُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأُرْسِلْت إلَى الْخَلْقِ عَامَّةً» أَيْ رَحْمَةً.
أَقُولُ: هَذَا تَفْسِيرٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ خُرُوجًا عَنْ مَوْضُوعِ اللَّفْظِ بِلَا دَلِيلٍ، وَمُخَالِفٌ لِمَقْصُودِ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ قَبْلَهُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ فَتَفْسِيرُ الْإِرْسَالِ هُنَا بِالرَّحْمَةِ تَحْرِيفٌ وَهُوَ مِمَّا يَشْمَئِزُّ لَهُ الطَّبْعُ فَأُحَاشِي السَّائِلَ مِنْهُ وَلَا يُسْلَكُ مِثْلُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ إلَّا حَيْثُ تَكُونُ أَدِلَّةٌ قَوِيَّةٌ تُلْجِئُ إلَى ذَلِكَ وَهَا هُنَا بِالْعَكْسِ الْأَدِلَّةُ تُوَافِقُ الظَّاهِرَ فَأَيُّ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إلَى هَذِهِ التَّعَسُّفَاتِ.
فَصْلٌ:
قَالَ: وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} وَلِكَوْنِ الْخَلْقِ فِيهِ مَنْ يَتَأَتَّى الْإِرْسَالُ إلَيْهِ.
أَقُولُ: أَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآيَةِ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ الْمُرْسَلُ إلَيْهِ وَالْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ الْعِلَّةُ الَّتِي هِيَ الرَّحْمَةُ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الرَّحْمَةَ عَامَّةٌ فَلَوْ عَكَسَ السَّائِلُ وَجَعَلَ الْعُمُومَ فِي الْمُرْسَلِ إلَيْهِ كَذَلِكَ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ، أَمَّا تَفْسِيرُ الْإِرْسَالِ بِالرَّحْمَةِ الَّتِي هِيَ عِلَّتُهُ فَغَيْرُ مَرْضِيٍّ.
وَأَمَّا كَوْنُ الْخَلْقِ فِيهِ مَنْ يَتَأَتَّى الْإِرْسَالُ إلَيْهِ فَالْجِنُّ يَتَأَتَّى الْإِرْسَالُ إلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} وَلِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَكْلِيفِهِمْ فَإِنْ قَالَ: لَا يَتَأَتَّى الْإِرْسَالُ مِنْ الْإِنْسِ إلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِمْ فَنَقُولُ: إنَّهُ يَتَأَتَّى فَإِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُخِّرَتْ لَهُ الْجِنُّ؛ وَغَيْرُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَكِنْ إذَا أَرْسَلَهُ اللَّهُ إلَيْهِمْ لابد أَنْ نَجْعَلَ لَهُ طَرِيقًا إلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ أَنْ يَحْصُلَ وُصُولُ ذَلِكَ الْكَلَامِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ.
وَقَدْ حَصَلَ هَذَا فِي اسْتِمَاعِ الْجِنِّ لِقِرَاءَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي ذَهَابِهِ إلَيْهِمْ وَقِرَاءَتِهِ عَلَيْهِمْ.
فَصْلٌ:
قَالَ السَّائِلُ: وَأَمَّا تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ وَتَحَدِّيهِمْ بِهِ؛ فَلِاحْتِمَالِ أَنْ يُحَقِّقَ عَجْزَهُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَيُثْبِتَ مُدَّعَاهُ إذْ لَا يَمْتَنِعُ اخْتِصَاصُ الرِّسَالَةِ بِقَوْمٍ وَتَحَدِّيهِمْ بِمُعْجِزَةٍ لَا يَقْدِرُونَ هُمْ وَلَا غَيْرُهُمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا؛ وَإِذَا انْضَافَ إلَى عَجْزِ الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ عَجْزُ مَنْ سِوَاهُمْ مِمَّنْ هُوَ أَقْوَى وَأَقْدَرُ مِنْهُمْ كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الِانْقِيَادِ وَالِاسْتِجَابَةِ لَهُ.
أَقُولُ: أَمَّا تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ وَكَانَ ذَلِكَ لِيُعْلِمَهُمْ بِسُؤَالِهِمْ كَمَا تَبَيَّنَ مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَأَمَّا تَحَدِّيهِمْ بِهِ فَذَلِكَ الْمُسْتَدِلُّ أَطْلَقَ هَذِهِ الدَّعْوَى وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنْ بَعْضَ الْمُصَنِّفِينَ ذَكَرَهَا مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ}- الْآيَةَ وَقُلْنَا: إنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ إلَّا عَلَى التَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ عَلَى مُعَارَضَتِهِ، وَأَمَّا عُمُومُ الدَّعْوَةِ بِهِ أَوْ خُصُوصُهَا فَلَا تَعَرُّضَ فِي الْآيَةِ لِذَلِكَ وَلِذَلِكَ فَقَوْلُ السَّائِلِ أَمَّا تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ وَتَحَدِّيهِمْ بِهِ إنْ أَرَادَ أَنَّ تِلَاوَتَهُ عَلَيْهِمْ كَانَ لِقَصْدِ التَّحَدِّي.
فَهَذَا لَمْ يَثْبُتْ وَإِنَّمَا كَانَ لِلتَّعْلِيمِ، وَالتَّحَدِّي فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمُبَارَاةُ وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ دَعْوَى الرِّسَالَةِ وَالْإِتْيَانِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ الْمُعْجِزَاتِ وَالْجِنُّ مِنْ حَيْثُ سَمِعُوا الْقُرْآنَ بِنَخْلَةٍ إذْ صَرَفَهُمْ اللَّهُ إلَيْهِ عَلِمُوا أَنَّهُ مُعْجِزٌ فَلَمْ يُبَارُوا فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَالْجِنُّ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي جَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى أَسَالِيبِهِ وَتَضَمَّنَ مِنْ نَظْمِ تِلْكَ الْأَسَالِيبِ وَالْجَزَالَةِ الْغَايَةَ الْقُصْوَى الَّذِي أَعْجَزَتْ الْخَلَائِقَ الَّذِينَ هُمْ فُصَحَاءُ ذَلِكَ اللِّسَانِ فَعَجْزُهُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ أُعْجِبُ مِنْ عَجْزِ الْجِنِّ وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ الْجِنُّ فِي قوله: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} تَعْظِيمًا لِإِعْجَازِهِ؛ لِأَنَّ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ لَهَا مِنْ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ لِلْأَفْرَادِ فَإِذَا فُرِضَ اجْتِمَاعُ جَمِيعِ الْإِنْسِ وَجَمِيعِ الْجِنِّ فَظَاهَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَعَجَزُوا عَنْ الْمُعَارَضَةِ كَانَ الْفَرِيقُ الْوَاحِدُ وَالطَّائِفَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْهُ وَكُلُّ شَخْصٍ مِنْهَا عَنْ الْمُعَارَضَةِ أَعْجَزَ، فَمَقْصُودُ الْآيَةِ إثْبَاتُ عَجْزِهِمْ بِدَلِيلِ الْأَوْلَى سَوَاءٌ حَصَلَ هَذَا الِاجْتِمَاعُ أَمْ لَمْ يَحْصُلْ.
وَالسَّائِلُ مَعْذُورٌ فِي رَدِّهِ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ بِذَلِكَ عَلَى عُمُومِ الْبَعْثَةِ لِلْجِنِّ وَنَحْنُ لَمْ نَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ بَلْ بِغَيْرِهِ مِمَّا لَا مُعْتَرَضَ عَلَيْهِ وَلَا مَرَدَّ لَهُ.
فَصْلٌ:
قَالَ السَّائِلُ: وَأَمَّا مَا أُحِلَّ لَهُمْ فَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ تَكْلِيفٌ لَنَا وَمُتَعَلِّقٌ بِنَا وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجْلِهِمْ كَمَا نَهَى عَنْ الْبَصْقِ عَنْ الْيَمِينِ مِنْ أَجْلِ الْمَلَكِ وَكَمَا حَرَّمَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ.
أَقُولُ: إنْ ثَبَتَ لَفْظُ الْإِحْلَالِ لَهُمْ لَمْ يَرِدْ هَذَا؛ لِأَنَّ الْإِحْلَالَ لَهُمْ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِهِمْ وَهُوَ إخْبَارٌ لَهُمْ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَالْبَعْثَةِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلسَّائِلِ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ إنْ ثَبَتَ لَفْظُ الْإِحْلَالِ لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا اللَّفْظُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: «لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْإِحْلَالِ وَلِغَيْرِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَهُوَ مَحَلُّ التَّوَقُّفِ وَإِذَا جُعِلَ التَّوَقُّفُ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الْبُصَاقِ لِأَجْلِ الْمَلَكِ وَتَحْرِيمُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ فَنَظِيرُهُ تَحْرِيمُ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْعَظْمِ مِنْ أَجْلِ الْجِنِّ وَذَلِكَ بِمُجَرَّدِهِ لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ بِالتَّحْلِيلِ لَهُمْ، فَلْيَفْهَمْ النَّاظِرُ الْفَرْقَ بَيْنَ التَّحْلِيلِ لَهُمْ وَالتَّحْرِيمِ عَلَيْنَا مِنْ أَجْلِهِمْ، وَالْأَوَّلُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِهِمْ، وَالثَّانِي مُتَعَلِّقٌ بِنَا لَا بِهِمْ، وَلَيْسَ لَنَا إذَا وَرَدَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ أَنْ نَحْمِلَهُ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى أَلْفَاظِ الشَّرِيعَةِ مَا أَمْكَنَ وَفَهْمُ مَعَانِيهَا وَتَوْفِيَتُهَا مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَلَا نُهْمِلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا نَتَجَاوَزُهُ فَنَزِيدُ أَحْكَامًا لَمْ يُنْزِلْ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَلَا نَنْقُصُ مِنْهُ فَنَتْرُكُ حُكْمًا أَنْزَلَهُ اللَّهُ، مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ فِي الْأَوَّلِ حَاكِمًا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَفِي الثَّانِي تَارِكًا لِلْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَكِلَاهُمَا مَذْمُومٌ لِقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}- الْآيَاتِ وَإِذَا تَوَعَّدَ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَعَلَى الْحُكْمِ بِمَا لَمْ يُنْزِلْ اللَّهُ أَوْلَى نَسْأَلُ اللَّهَ الْعِصْمَةَ مِنْ الْأَمْرَيْنِ.